فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{يا أيُّها النّبِيُّ لِم تُحرِّمُ ما أحلّ الله لك تبْتغِي مرْضات أزْواجِك}
افتتاح السورة بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء تنبيه على أن ما سيذكر بعده مما يهتم به النبي صلى الله عليه وسلم والأمة ولأن سبب النزول كان من علائقه.
والاستفهام في قوله: {لم تحرم} مستعمل في معنى النفي، أي لا يوجد ما يدعو إلى أن تحرّم على نفسك ما أحلّ الله لك ذلك أنه لما التزم عدم العود إلى ما صدر منه التزاما بيمين أو بدون يمين أراد الامتناع منه في المستقبل قاصدا بذلك تطمين أزواجه اللاء تمالأْن عليه لِفرط غيرتهن، أي ليست غيرتهن مما تجب مراعاته في المعاشرة إن كانت فيما لا هضم فيه لحقوقهن، ولا هي من إكرام إحداهن لزوجها إن كانت الأخرى لم تتمكن من إكرامه بمثل ذلك الإِكرام في بعض الأيام.
وهذا يومئ إلى ضبط ما يراعى من الغيرة وما لا يراعى.
وفعل {تحرم} مستعمل في معنى: تجعل ما أحلّ لك حراما، أي تحرّمه على نفسك كقوله تعالى: {إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} [آل عمران: 93] وقرينتهُ قوله هنا: {ما أحل الله لك}.
وليس معنى التحريم هنا نسبة الفعل إلى كونه حراما كما في قوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32]، وقوله: {يحلونه عاما ويحرمونه عاما} [التوبة: 37]، فإن التفعيل يأتي بمعنى التصبير كما يقال: وسِّعْ هذا الباب ويأتي بمعنى إيجاد الشيء على حالة مثل ما يقال للخياط: وسِّعْ طوْق الجبّة.
ولا يخطر ببال أحد أن يتوهم منه أنك غيّرت إباحته حراما على الناس أو عليك.
ومن العجيب قول (الكشاف): ليس لأحد أن يُحرّم ما أحلّ الله لأن الله إنما أحله لمصلحة عرفها في إحلاله إلخ.
وصيغة المضارع في قوله: {لم تحرم} لأنه أوقع تحريما متجددا.
فجملة {تبتغي} حال من ضمير {تحرم}.
فالتعجيب واقع على مضمون الجملتين مثل قوله: {لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} [آل عمران: 130].
وفي الإِتيان بالموصول في قوله: {ما أحل الله لك} لما في الصلة من الإِيماء إلى تعليل الحكم هو أن ما أحله الله لعبده ينبغي له أن يتمتع به ما لم يعرض له ما يوجب قطعه من ضر أو مرض لأن تناوله شكرٌ لله واعترافٌ بنعمته والحاجة إليه.
وفي قوله: {تبتغي مرضات أزواجك} عذر للنبي صلى الله عليه وسلم فيما فعله من أنه أراد به خيرا وهو جلب رضا الأزواج لأنه أعون على معاشرته مع الإشعار بأن مثل هذه المرضاة لا يعبأ بها لأن الغيرة نشأت عن مجرد معاكسة بعضهن بعضا وذلك مما يختل به حسن المعاشرة بينهن، فأنبأه الله أن هذا الاجتهاد معارض بأن تحريم ما أحلّ الله له يفضي إلى قطع كثير من أسباب شكر الله عند تناول نعمه وأن ذلك ينبغي إبطاله في سيرة الأمة.
وذيل بجملة {والله غفور رحيم} استئناسا للنبي صلى الله عليه وسلم من وحشة هذا الملام، أي والله غفور رحيم لك مثل قوله: {عفا الله عنك لما أذنت لهم} [التوبة: 43].
{قدْ فرض الله لكُمْ تحِلّة أيْمانِكُمْ والله موْلاكُمْ وهُو الْعلِيمُ الْحكِيمُ (2)}
استئناف بياني بيّن الله به لنبيئه صلى الله عليه وسلم أن له سعة في التحلل مما التزم تحريمه على نفسه، وذلك فيما شرع الله من كفارة اليمين فأفتاه الله بأن يأخذ برخصته في كفارة اليمين المشروعة للأمة كلها ومن آثار حكم هذه الآية ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس بعد أن استحملوه وحلف أن لا يحملهم إذ ليس عنده ما يحملهم عليه، فجاءه ذود من إبل الصدقة فقال لهم: «وإني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وفعلت الذي هو خير».
وافتتاح الخبر بحرف التحقيق لتنزيل النبي صلى الله عليه وسلم منزلة من لا يعلم أن الله فرض تحِلّة الأيمان بآية الكفارة بناء على أنه لم يأخذ بالرخصة تعظيما للقسم.
فأعلمه الله أن الأخذ بالكفارة لا تقصير عليه فيه فإن في الكفارة ما يكفي للوفاء بتعظيم اليمين بالله إلى شيء هذا قوله تعالى في قصة أيوب {وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث} [ص: 44] كما ذكرناه في تفسيرها و{فرض} عيّن ومنه قوله تعالى: {نصيبا مفروضا} [النساء: 7].
وقال: فرض له في العطاء والمعنى: قد بيّن الله لكن تحلة أيمانكم.
واعلم أنه إن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه في تلك الحادثة إلا أنه التزم أن لا يعود لشرب شيء عند بعض أزواجه في غير يوم نوبتها أو كان وعد أن يحرّم مارية على نفسه بدون يمين على الرواية الأخرى.
كان ذلك غير يمين فكان أمرُ الله إياه بأن يكفر عن يمينه إما لأن ذلك يجري مجرى اليمين لأنه إنما وعد لذلك تطمينا لخاطر أزواجه فهو التزام لهن فكان بذلك ملحقا باليمين وبذلك أخذ أبو حنيفة ولم يره مالك يمينا ولا نذرا فقال في (الموطأ): ومعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يعصي الله فلا يعصه» أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام أو إلى مصر مما ليس لله بطاعة إن كلم فلانا، فليس عليه في ذلك شيء إنْ هو كلّمه لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة فإن حلف فقال: والله لا آكل هذا الطعام ولا ألبس هذا الثوب فإنما عليه كفارة يمين. اهـ.
وقد اختلف هل كفّر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه تلك.
فالتحلّة على هذا التفسير عند مالك هي: جعل الله ملتزم مثل هذا في حلِّ مننِ التزامم ما التزمه.
أي مُوجب التحلل من يمينه.
وعند أبي حنيفة: هي ما شرعه الله من الخروج من الأيمان بالكفارات وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم صدر منه يمين عند ذلك على أن لا يعود فتحِلّة اليمين هي الكفارة عند الجميع.
وجملة {والله مولاكم} تذييل لجملة {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}.
والمولى: الولي، وهو الناصر ومتولي تدبير ما أضيف إليه، وهو هنا كناية عن الرؤوف والميسّر، كقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185].
وعطف عليها جملة {وهو العليم الحكيم} أي العليم بما يصلحكم فيحملكم على الصواب والرشد والسداد وهو الحكيم فيما يشرعه، أي يجري أحكامه على الحكمة.
وهي إعطاء الأفْعال ما تقتضيه حقائقها دون الأوهام والتخيلات.
واختلف فقهاء الإِسلام فيمن حرّم على نفسه شيئا مما أحل الله له على أقوال كثيرة أنهاها القرطبي إلى ثمانية عشر قولا وبعضها متداخل في بعض باختلاف الشروط والنيات فتؤول إلى سبعة.
أحدها: لا يلزمه شيء سواء كان المحرّم زوجا أو غيرها.
وهو قول الشعبي ومسروق وربيعة من التابعين وقاله أصبغ بن الفرج من أصحاب مالك.
الثاني: تجب كفارة مثل كفارة اليمين.
وروي عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير، وبه قال الأوزاعي والشافعي في أحد قوليه.
وهذا جار على ظاهر الآية من قوله: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}.
الثالث: لا يلزمه في غير الزوجة وأما الزوجة فقيل: إن كان دخل بها كان التحريم ثلاثا، وإن لم يدخل بها ينوّ فيما أراد وهو قول الحسن والحكم ومالك في المشهور.
وقيل هي ثلاث تطليقات دخل بها أم لم يدخل.
ونسب إلى علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي هريرة.
وقاله ابن أبي ليلى وهو عند عبد الملك بن الماجشون في (المبسوط).
وقيل طلقة بائنة.
ونسب إلى زيد بن ثابت وحماد بن سليمان ونسبه ابن خُويز منداد إلى مالك وهو غير المشهور عنه.
وقيل: طلقة رجعية في الزوجة مطلقا، ونسب إلى عمر بن الخطاب فيكون قيدا لما روي عنه في القول الثاني.
وقاله الزهري وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون، وقال الشافعي يعني في أحد قوليه: إن نوى الطلاق فعليه ما نوى من أعداده وإلا فهي واحدة رجعية.
وقيل: هي ثلاث في المدخول بها وواحدة في التي لم يدخل بها دون تنوية.
الرابع: قال أبو حنيفة وأصحابه إن نوى بالحرام الظهار كان ما نوى فإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن يكون نوى الثلاث.
وإن لم ينو شيئا كانت يمينا وعليه كفارة فإنْ أباها كان موليا.
وتحريم النبي صلى الله عليه وسلم سريته مارية على نفسه هو أيضا من قبيل تحريم أحد شيئا مما أحلّ الله له غير الزوجة لأن مارية لم تكن زوجة له بل هي مملوكته فحكم قوله: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} جار في قضية تحريم مارية بيمين أو بغير يمين بلا فرق.
و{تحلة} تفعِلة مِن حلل جعل الفعل حلالا.
وأصله تحْللة فأدغم اللامان وهو مصدر سماعي لأن الهاء في آخره ليست بقياس إذ لم يحذف منه حرف حتى يعوض عنه الهاء مثل تزكية ولكنه كثير في الكلام مثل تعلة.
{وإِذْ أسرّ النّبِيُّ إِلى بعْضِ أزْواجِهِ حديثا}.
هذا تذكير وموعظة بما جرى في خلال تينك الحادثتين ثني إليه عنان الكلام بعد أن قضي ما يهم من التشريع للنبي صلى الله عليه وسلم بما حرّم على نفسه من جرّائهما.
وهو معطوف على جملة {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم: 1] بتقدير واذكر.
وقد أعيد ما دلت عليه الآية السابقة ضمنا بما تضمنته هذه الآية بأسلوب آخر ليبن عليه ما فيه من عبر ومواعظ وأدب، ومكارم وتنبيه وتحذير.
فاشتملت هذه الآيات على عشرين معنى من معاني ذلك.
إحداها ما تضمنه قوله: {إلى بعض أزواجه}.
الثاني: قوله: {فلما نبأت به}.
والثالث: {وأظهره الله عليه}.
الرابع: {عرف بعضه}.
الخامس: {وأعرض عن بعض}.
السادس: {قالت من أنبأك هذا}.
السابع: {قال نبأني العليم الخبير}.
الثامن والتاسع والعاشر: {إن تتوبا إلى الله إلى فإن الله هو مولاه} [التحريم: 4].
الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر: {وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة} [التحريم: 4].
الرابع عشر والخامس عشر: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا} [التحريم: 5].
السادس عشر: {خيرا منكن} [التحريم: 5].
السابع عشر: {مسلمات} [التحريم: 5] إلخ.
الثامن عشر: {سائحات} [التحريم: 5].
التاسع عشر: {ثيبات وأبكارا} [التحريم: 5]، وسيأتي بيانها عند تفسير كل آية منها.
العشرون: ما في ذكر حفصة أو غيرها بعنوان {بعض أزواجه} دون تسميته من الاكتفاء في الملام بذكر ما تستشعِر به أنها المقصودة باللوم.
وإنما نبّأها النبي صلى الله عليه وسلم بأنه علم إفشاءها الحديث بأمر من الله ليبني عليه الموعظة والتأديب فإن الله ما أطلعه على إفشائها إلا لغرض جليل.
والحديث هو ما حصل من اختلاء النبي صلى الله عليه وسلم بجاريته مارية وما دار بينه وبين حفصة وقوله لحفصة: «هي عليّ حرام ولا تخبري عائشة» وكانتا متصافيتين وأطلع الله نبيئه صلى الله عليه وسلم على أن حفصة أخبرت عائشة بما أسرّ إليها.
والواو عاطفة قصة على قصة لأن قصة إفشاء حفصة السرّ غير قصة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه بعض ما أحلّ له.
ولم يختلف أهل العلم في أن التي أسر إليها النبي صلى الله عليه وسلم الحديث هي حفصة ويأتي أن التي نبأتْها حفصة هي عائشة.
وفي (الصحيح) عن ابن عباس قال: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجا فخرجت معه فلما رجع ببعض الطريق قلت: يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على رسول الله من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة وساق القصة بطولها.
وأصل إطلاق الحديث على الكلام مجاز لأنه مشتق من الحدثان فالذي حدث هو الفعل ونحوه ثم شاع حتى صار حقيقة في الخبر عنه وصار إطلاقه على الحادثة هو المجاز فانقلب حال وضعه واستعماله.
و{أسر} أخبر بما يراد كتمانه عن غير المخبر أو سأله عدم إفشاء شيء وقع بينهما وإن لم يكن إخبارا وذلك إذا كان الخبر أو الفعل يراد عدم فشوّه فيقوله صاحبه سرّا والسرّ ضد الجهر، قال تعالى: {ويعلم ما تسرون وما تعلنون} [التغابن: 4] فصار {أسر} يطلق بمعنى الوصاية بعدم الإِفشاء، أي عدم الإِظهار قال تعالى: {فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم} [يوسف: 77].
و{أسر}: فعل مشتق من السرّ فإن الهمزة فيه للجعل، أي جعله ذا سرّ، يقال: أسرّ في نفسه، إذا كتم سرّه.
ويقال: أسرّ إليه، إذا حدثه بسرّ فكأنه أنهاه إليه، ويقال: أسرّ له إذا أسرّ أمرا لأجله، وذلك في إضمار الشر غالبا وأسرّ بكذا، أي أخبر بخبر سرّ، وأسرّ، إذا وضع شيئا خفيا.
وفي المثل (يُسِرّ حسْوا في ارتغاء).
و{بعض أزواجه} هي حفصة بنت عمر بن الخطاب.
وعدل عن ذكر اسمها ترفعا عن أن يكون القصد معرفة الأعيان وإنما المراد العلم بمغزى القصة وما فيها مما يجتنب مثله أو يقتدى به.
وكذلك طي تعيين المنبّأة بالحديث وهي عائشة.
وذكرت حفصة بعنوان بعض أزواجه للإِشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع سِرّه في موضعه لأن أولى الناس بمعرفة سرّ الرجل زوجهُ.
وفي ذلك تعريض بملامها على إفشاء سرّه لأن واجب المرأة أن تحفظ سرّ زوجها إذا أمرها بحفظه أو كان مثله مما يجب حفظه.
وهذا المعنى الأول من المعاني التهذيبية التي ذكرناها آنفا.
ونبّأ: بالتضعيف مرادف أنبأ بالهمز ومعناهما: أخبر، وقد جمعهما قوله: {فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير}.
وقد قيل: السرّ أمانة، أي وإفشاؤه خيانة.
وفي حديث أم زرع من آدابهم العربية القديمة قالت الحادية عشرة: «جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع لا تبث حديثنا تبثيثا ولا تنفث ميرثنا تنفيثا».
وكلام الحكماء والشعراء في السرّ وحفظه أكثر من أن يحصى.
وهو المعنى الثاني من المعاني التهذيبية التي ذكرناها.
ومعنى و{وأظهره الله عليه} أطلعه عليه وهو مشتق من الظهور بمعنى التغلب.
استعير الإِظهار إلى الإِطْلاع لأن إطلاع الله نبيئه صلى الله عليه وسلم على السرّ الذي بين حفصة وعائشة كان غلبة له عليهما فيما دبرتاه فشبهت الحالة الخاصة من تآمر حفصة وعائشة على معرفة سرّ النبي صلى الله عليه وسلم ومن علمه بذلك بحال من يغالب غيره فيغلبه الغير ويكشف أمره فالإِظهار هنا من الظهور بمعنى الانتصار.
وليس هو من الظهور ضد الخفاء، لأنه لا يتعدى بحرف (على).
وضمير {عليه} عائد إلى الإِنباء المأخوذ من {نبأت به} أو على الحديث بتقدير مضاف يدل عليه قوله: {نبأت به} تقديره: أظهره الله على إفشائه.
وهذا تنبيه إلى عناية الله برسوله صلى الله عليه وسلم وانتصاره له لأن إطلاعه على ما لا علم له به مما يهمه، عناية ونصح له.
وهذا حاصل المعنى الثالث من المعاني التي اشتملت عليها الآيات وذكرناها آنفا.
ومعفول {عرف} الأولُ محذوف لدلالة الكلام عليه، أي عرفها بعضه، أي بعض ما أطْلعه الله عليه، وأعرض عن تعريفها ببعضه.
والحديث يحتوي على أشياء: اختلاء النبي بسريته مارية، وتحريمها على نفسه، وتناوله العسل في بيت زينب، وتحريمه العودة إلى مثل ذلك، وربّما قد تخلل ذلك كلام في وصف عثور حفصة على ذلك بغتة، أو في التطاول بأنها استطاعت أن تريحهن من ميله إلى مارية.
وإنما عرّفها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ليوقفها على مخالفتها واجب الأدب من حفظ سرّ زوجها.
وهذا هو المعنى الرابع من المعاني التي سبقت إشارتي إليها.
وإعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن تعريف زوجه ببعض الحديث الذي أفشته من كرم خلقه صلى الله عليه وسلم في معاتبة المفشية وتأديبها إذ يحصل المقصود بأن يعلم بعض ما أفشته فتوقن أن الله يغار عليه.
قال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام، وقال الحسن: ما استقصى كريمٌ قط، وما زاد على المقصود بقلب العتاب من عتاب إلى تقريع.
وهذا المعنى الخامس من مقاصد ذكر هذا الحديث كما أشرنا إليه آنفا.
وقولها: {من أنبأك هذا} يدل على ثقتها بأن عائشة لا تفشي سرّها وعلمت أنه لا قبل للرسول صلى الله عليه وسلم بعلم ذلك إلا من قبل عائشة أو من طريق الوحي فرامت التحقق من أحد الاحتمالين.
والاستفهام حقيقي ولك أن تجعله للتعجب من علمه بذلك.
وفي هذا كفاية من تيقظها بأن إفشاءها سرّ زوجها زلة خُلقية عظيمة حجبها عن مراعاتها شدة الصفاء لعائشة وفرط إعجابها بتحريم مارية لأجلها، فلم تتمالك عن أن تبشر به خليلتها ونصيرتها ولو تذكرت لتبين لها أن مقتضى كتم سرّ زوجها أقوى من مقتضى إعلامها خليلتها فإن أواصر الزوجية أقوى من أواصر الخلة وواجب الإِخلاص لرسول الله أعلى من فضيلة الإِخلاص للخلائل.
وهذا هو الأدب السادس من معاني الآداب التي اشتملت عليها القصة وأجملنا ذكرها آنفا.
وإيثار وصفي {العليم الخبير} هنا دون الاسم العلم لما فيهما من التذكير بما يجب أن يعلمه الناس من إحاطة الله تعالى علما وخُبْرا بكل شيء.
و{العليم}: القوي العلم وهو في أسمائه تعالى دالّ على أكمل العلم، أي العلم المحيط بكل معلوم.
و {الخبير}: أخص من العليم لأنه مشتق من خبر الشيء إذا أحاط بمعانيه ودخائله ولذلك يُقال خبرته، أي بلوته وتطلعتُ بواطن أمره، قال ابن بُرّجان (بضم الموحدة وبجيم مشددة) في (شرح الأسماء): الفرق بين الخُبر والعلم وسائر الأشياء الدالة على صفة العلم أن تتعرف حصول الفائدة من وجه وأضِف ذلك إلى تلك الصفة وسم الفائدة بذلك الوجه الذي عنه حصلتْ فمتى حصلت من موضع الحُضور سميت مشاهدة والمتصف بها هو الشاهد والشهيد، وكذلك إن حصلت من وجه سمع أو بصر فالمتصف بها سميع وبصير.
وكذلك إن حصلت من عِلْم أو علامة فهو العلم والمتصف به العالم والعليم، وإن حصلت عن استكشاف ظاهر المخبُور عن باطنه بِبلوى أو امتحان أو تجربة أو تبليغ فهو الخبْر. والمسمّى به الخبير. اهـ.
وقال الغزالي في (المقصد الأسنى): العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خِبرة وسمي صاحبها خبيرا.اهـ.
فيتضح أن أتباع وصف {العليم} بوصف {الخبير} إيماء إلى أن الله علم دخيلة المخاطبة وما قصدته من إفشاء السرّ للأخرى.
وقد حصل من هذا الجواب تعليمها بأن الله يطلع رسول صلى الله عليه وسلم على ما غاب إن شاء قال تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول} [الجن: 26، 27] وتنبيها على ما أبطنته من الأمر.
وهو الأدب السابع من آداب هذه الآيات.
واعلم أن نبّأ وأنبأ مُترادفان وهما بمعنى أخبر وأن حقهما التعدية إلى مفعول واحد لأجل ما فيهما من همزة تعدية أو تضعيف.
وإن كان لم يسمع فعل مجرد لهما وهو مما أميت في كلامهم استغناء بفعل علم.
والأكثر أن يتعديا إلى ما زاد على المفعول بحرف جر نحو: نبأتُ به.
وقد يحذف حرف الجر فيعدّيان إلى مفعولين، كقوله هنا: {من أنبأك هذا} أي بهذا، وقول الفرزدق:
نبئت عبد الله بالجو أصبحت ** كراما مواليها لآما ما صميمها

حمله سيبويه على حذف الحرف.
وقد يضمنان معنى: اعلم، فيعديان إلى ثلاثة مفاعيل كقول النابغة:
نبئت زرعة والسفاهة كاسمها ** يهدي إليّ غرائب الأشعار

ولكثرة هذا الاستعمال ظن أنه معنى لهما وأغفل التضمين فنسب إلحاقهما بـ (اعلم) إلى سيبويه والفارسي والجرجاني وألْحق الفراء خبّر وأخبر، وألحق الكوفيون حدّث.
قال زكريا الأنصاري: لم تسمع تعديتها إلى ثلاثة في كلام العرب إلا إذا كانت مبنية إلى المجهول.
وقرأ الجمهور {عرف} بالتشديد.
وقرأه الكسائي {عرف} بتخفيف الراء، أي علم بعضه وذلك كناية عن المجازاة، أي جازى عن بعضه التي أفشته باللوم أو بالطلاق على رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ولم يصح وقد يكنى عن التوعد بفعل العلم.
ونحوه كقوله تعالى: {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم} [النساء: 63].
وقول العرب للمسيء: لأعرفن لك هذا.
وقولك: لقد عرفت ما صنعت. اهـ.